فصل: فَصْل في تمثل الجن عند الأصنام وكيفية التغلب عليها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل في تمثل الجن عند الأصنام وكيفية التغلب عليها:

وَقَالَ شيخ الإِسْلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ: ولا ريب أن الأوثان يحصل عندها من الشياطين، وخطابهم، وتصرفهم مَا هُوَ من أسباب ضلال بَنِي آدم، وجعل القبور أوثانًا، هُوَ أول الشرك، ولهَذَا يحصل عِنْدَ القبور لبعض النَّاس من خطاب يسمعه، وشخص يراه، وتصرف عجيب، مَا يظن أَنَّهُ من الميت.
وقَدْ يكون من الجن والشياطين، مثل أن يرى القبر قَدْ انشق، وخَرَجَ منه الميت، وكلمه وعانقه وَهَذَا يرى عِنْدَ قبور الأَنْبِيَاء وغيرهم، وإنما هُوَ شيطان فَإِنَّ الشيطان يتصور بصور الإنس، ويدعي أحدهم أَنَّهُ النَّبِيّ فلان أَوْ الشَّيْخ فلان وَيَكُونُ كّاذِبًا فِي ذَلِكَ.
وفي هَذَا الْبَاب من الوقائع مَا يضيق هَذَا الموضع عَنْ ذكره وهي كثيرة جدًا، والجاهل يظن أن ذَلِكَ الَّذِي رآه قَدْ خَرَجَ من القبر وعانقه أَوْ كلمه هُوَ المقبور أَوْ النَّبِيّ، أَوْ الصالح، أَوْ غيرهما، والمُؤْمِن العَظِيم يعلم أَنَّهُ شيطان، ويتبين ذَلِكَ بأمور:
أحدهما أن يقرأ آية الكرسي بصدق، فَإِذَا قرأها تغيب ذَلِكَ الشخص، أَوْ ساخ فِي الأَرْض، أَوْ احتجب، ولو كَانَ رجلاً صالحًا أَوْ ملكًا أَوْ جنيًا مؤمنًا لم تضره آية الكرسي، وإنما تضر الشيطان كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة: اقرأ آية الكرسى إذا أويت فراشك، فإنه لا يزال عَلَيْكَ من الله حافظ ولا يقربك شيطان حَتَّى تصبح، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «صدقك وَهُوَ كذوب».
وَمِنْهَا أن يستعيذ بِاللهِ من الشياطين.
وَمِنْهَا أن يستعيذ بالعوذة الشرعية، فَإِنَّ الشياطين كَانَتْ تعرض للأنبياء فِي حياتهم وتريد أن تؤذيهم، وتفسد عبادتهم كما جاءت الجن إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بشعلة من نار تريد أن تحرقه، فأتاه جبريل بالعوذة المعروفة، التي تضمنها الْحَدِيث المروي عَنْ أبي التياح أَنَّهُ قَالَ: سأل رجل عَبْد الرَّحْمَنِ بن حبيش، وكَانَ شيخًا كبيرًا قَدْ أدرك النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كيف صنع رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين؟ قَالَ: تحدرت عَلَيْهِ من الشعاب، والأودية، وفيهم شيطان معه شعلة من نار، يريد أن يحرق بها رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: فرعب رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد قل مَا أَقُول، قَالَ: قل: أعوذ بكلمَاتَ الله التامَاتَ، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر مَا خلق، وذرأ وبرأ ومن شر مَا ينزل من السماء، ومن شر مَا يعرج فيها، ومن شرما يخَرَجَ من الأَرْض، ومن شر مَا ينزل فيها، ومن شر فتن الليل والنَّهَارَ، ومن شر كُلّ طارق يطرق إِلا طارقًا يطرق بخَيْر يَا رحمن.
قَالَ: فطفئت نارهم، وهزمهم الله عَزَّ وَجَلَّ. وفي صحيح مُسْلِم عَنْ أبي الدرداء أَنَّهُ قَالَ: قام رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يصلي، فسمعناه يَقُولُ: «أعوذ بِاللهِ منك». ثُمَّ قَالَ: أعلنك بلعنة الله ثلاثًا، وبسط يده يتناول شَيْئًا، فَلَمَّا فرغ من صلاته، قلنا: يَا رَسُول اللهِ سمعناك تَقُول شَيْئًا فِي الصَّلاة لم نسمعك تَقُول قبل ذَلِكَ، ورأيناك بسطت يدك.
قَالَ: إن عدو الله إبلَيْسَ جَاءَ بشهاب من نار، ليجعله فِي وجهي، فَقُلْتُ: أعوذ بِاللهِ منك ثلاث مرات، ثُمَّ قُلْتُ: ألعَنْكَ بلعنة الله التامة فاستأخر، ثُمَّ أردت أن آخذه، ولولا دعوة أخينا سُلَيْمَانٌ لأصبح موثقًا يلعب به ولدان الْمَدِينَة.
وكثيرًا من العباد يرى الكعبة تطوف به ويرى عرشًا عظيمًا، وعَلَيْهِ صورة عظيمة، ويرى أشخاصًا تصعد، وتنزل فيظنها الْمَلائِكَة ويظن أن تلك الصورة هِيَ الله، تَعَالَى وتقدس، وَيَكُون ذَلِكَ شيطانًا.
وقَدْ جرت هَذِهِ الْقِصَّة لغير واحد من النَّاس، فمِنْهُمْ من عصمه الله وعرف أَنَّهُ الشيطان، كالشَّيْخ عبد القادر فِي حكايته المشهورة، حيث قَالَ: كنت مرة فِي العبادة فرَأَيْت عرشًا عظيمًا، وعَلَيْهِ نور، فَقَالَ لي: يَا عبد القادر، أَنَا ربك، وَقَدْ حللت لَكَ مَا حرمت على غيرك. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ الله لا إله إِلا هُوَ، أخسأ يَا عدو الله. قَالَ: فتمزق ذَلِكَ النور، وصار ظلمة، وَقَالَ: يَا عبد القادر نجوت مني بفقهك فِي دينك، وعلمك ومنازلتك، فِي أحوالك، لَقَدْ فتنت بهذه الْقِصَّة سبعين رجلاً.
فَقِيلَ لَهُ: كيف علمت أَنَّهُ الشيطان، قَالَ: بقوله: لي حللت لَكَ مَا حرمت على غيرك، وَقَدْ علمت أن شريعة مُحَمَّد لا تنسخ ولا تبدل، ولأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ربك، ولم يقدر أن يَقُولُ أنا الله الَّذِي لا إله إِلا أَنَا. ومن هؤلاء من اعتقَدْ أن المرئي هُوَ الله وصار هُوَ وأصحابه يعتقدون انهم يرون الله تَعَالَى، وفي اليقظة، ومستندهم مَا شاهدوه، وهم صادقون فيما يخبرون به، ولكن لم يعلموا أن ذَلِكَ هُوَ الشيطان.
وَهَذَا قَدْ وقع كثيرًا لطوائف من جهال العباد يظن أحدهم أَنَّهُ يرى الله تَعَالَى بعينه فِي الدُّنْيَا لأن كثيرًا مِنْهُمْ رأى مَا ظن أَنَّهُ الله وإنما هُوَ شيطان.
وكثير مِنْهُمْ من رأى من ظن أَنَّهُ نبي أَوْ رجل صالح أَوْ الخضر وكَانَ شيطانًا قَالَ: وَمِنْهُمْ من يظن أَنَّهُ ملك والملك يتميز عَنْ الجني بأمور كثيرة والجن فيهم الكفار والفساق والجهال وفيهم المؤمنون المتبعون لمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فكثيرًا ممن لم يعرف أن هؤلاء جن وشياطين يعتقدهم ملائكة وإنما هم من الجن والشياطين.
قَالَ: والشياطين يوالون من يفعل مَا يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان فتَارَّة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة، ليكاشف بها، وتَارَّة يؤذون من يريد أذاه، بقتل، أَوْ تمريض، ونحو ذَلِكَ.
وتَارَّة يجلبون لَهُ مَا يريد، من الإنس وتَارَّة يسرقون لَهُ مَا يسرقونه من أموال النَّاس من نقَدْ وطعام، وثياب وغير ذَلِكَ، فيعتقَدْ أَنَّهُ من كرامَاتَ الأَوْلِيَاء، وإنما يكون مسروقًا.
وتَارَّة يحملونه فِي الهواء فيذهبون به إلى مكَانَ بعيد، فمِنْهُمْ من يذهبون به إلى مَكَّة عشية عرفة، ويعودون به فيعتقَدْ هَذَا كرامة، مَعَ أَنَّهُ لم يحج حج الْمُسْلِمِين لا أحرم ولا لبى ولا طاف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ومَعَ أن هَذَا من أعظم الضلال. انتهى باختصار.
اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، واجْعَلنَا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.التَّحْذِيْر مِن الانْهِمَاكِ فِي الدُّنْيَا وَلَذَاتِهَا وَشَهَواتِهَا:

عباد الله إن من نظر إلى الدُّنْيَا بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء وعيشها نكد، وصفوها كدر وأهلها مَنْهَا على وجل إما بنعمة زائلة، أَوْ بلية نازلة أَوْ مَنيَّة قاضية.
مسكين من اطمأن ورضي بدار حلالها حساب، وحرامها عقاب، إن أخذه من حلال حوسب عَلَيْهِ، وإن أخذه من حرام عذب به، من استغنى فِي الدُّنْيَا فتن، ومن افتقر فيها حزن، من أحبها أذلته، ومن التفت إليها ونظرها أعمته.
لَوْ كُنْتُ رَائِدَ قَوْمٍ ظَاعِنِينَ إلى ** دُنْيَاكَ هَذِي لَمَا أُلْفِيتَ كَذَّابَا

لَقُلْتُ تِلْكَ بَلاءٌ نَبْتُهَا سَقَمٌ ** وَمَاؤُهَا الْعَذْبُ سُمٌ لِلْفَتَى ذَابَا

وَكَمْ كشف للسامعين عَنْ حَقِيقَة الدُّنْيَا وبين لَهُمْ قصر مدتها وانقضاء لذتها بما يضرب من الأمثال الحسية، قَالَ تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}. قَالَ بَعْضُهُمْ:
مَيَّزْتَ بَيْنَ جَمَالِهَا وَفِعَالِهَا ** فَإِذَا الْمَلاحَةُ بِالْقَبَاحَةِ لا تَفِي

حَلَفَتْ لَنَا أن لا تَخُونَ عُهُودَنَا ** فَكَأَنَّهَا لَنَا أَنْ لا تَفِي

آخر:
أَلا إِنَّمَا الدُّنْيَا غَضَارَةٌ أَيْكَةٍ ** إِذَا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ

هِيَ الدَّارُ مَا الآمَالُ إِلا فَجَائِعًا ** عَلَيْهَا وَمَا اللَّذَاتُ إِلا مَصَائِبُ

فَكَمْ سَخِنَتْ بِالأَمْسِ عَيْنٌ قَرِيرَةٌ ** وَقَرَّتْ عُيُونٌ دَمْعُهَا الآنَ سَاكِبُ

فَلا تَكْتَحِلْ عَيْنَاكَ مِنْهَا بِعبرةٍ ** عَلَى ذَاهِب مِنْهَا فَإِنَّكَ ذَاهِبُ

آخر:
لِلْمَوْتِ فِينَا سِهَامٌ غَيْرُ مُخْطِئَةً ** مَنْ فَاتَهُ الْيَوْمَ سَهْمٌ لَمْ يَفُتْهُ غَدَا

مَا ضَرَّ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَغَدرَتَها ** أَنْ لا يُنَافِسَ فِيهَا أَهْلَهَا أَبَدَا

آخر:
لَحَى الله ذِي الدُّنْيَا مَرَادًا وَمَنْزِلاً ** فَمَا أَغْدَرَ الْمَثْوَى وَمَا أَوْبَأ الْمَرْعَى

تَدَلَّلُ كَالْحَسْنَاءِ فِي حُسْنِ وَجْهِهَا ** وَلَكِنَّهَا فِي قُبْح أَفْعَالِهَا أَفْعَى

نَرَى أَنَّنَا نَسْعَى لِخَيْرٍ نَنَالُهُ ** وَقَدْ وَطِئَتْ أَقْدَامُنَا حَيَّةً تَسْعَى

فَصْل:
شرح لَنَا العليم الحكيم فِي هَذِهِ الآيَة المتقدمة حال الدُّنْيَا التي افتتن النَّاس بها الَّذِينَ قصر نظرهم وبين أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عَنْ الافتنان بها والانهماك فِي طلبها وقتل الوَقْت فِي تحصيلها بأنها لعب لا ثمرة فيه سِوَى التعب، ولهو تشغل صاحبها وتلهيه عما ينفعه فِي آخرته، وزينة لا تفيد المفتون بها شرفًا ذاتيًا كالملابس الجميلة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة الواسعة، وتفاخر بالأنساب والعظام البالية ومباهات بكثرة الأموال والأولاد وعظم الجاه.
ثُمَّ أشار جل شأنه إلى أنها مَعَ ذَلِكَ سريعة الزَوَال، قريبة الاضمحلال، كمثل غيث راق الزراع نباته الناشئ به، ثُمَّ يهيج ويتحرك وينمو إلى أقصى مَا قدره الله لَهُ فسرعان مَا تراه مصفرًا متغيرًا ذابلاً بعدما رأيته أخضر ناضرًا، ثُمَّ يصير من اليبس هَشِيمًا متكسرًا، ففيه تشبيه جميع مَا فِي الدُّنْيَا من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل ويتلاشى فِي أقل من سنة.
إشارة إلى سرعة زوالها وقرب فنائها، وبعد مَا بين جَلَّ وَعَلا حقارة الدُّنْيَا وسرعة زوالها تزهيدًا فيها، وتنفيرًا وتحذيرًا من الانهماك فِي طلبها أشار إلى فخامة شأن الآخِرَة وفظاعة مَا فيها من الآلام وعظم مَا فيها من اللذات ترهيبًا من عذابها الأَلِيمِ، وترغيبًا فِي تحصيل النَّعِيم الْمُقِيم والعيش السَّلِيم مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وَالنَّاسُ فِيهَا قسمان فطناء قَدْ وفقهم الله فعلموا أنها ظِلّ زائل ونعيم حائل وأضغاث أحلام، بل فهموا أنها نعم فِي طيها نقم، وعرفوا أنها حياة فانية، وأنها معبر وطَرِيق إلى الحياة الباقية، فرضوا مَنْهَا باليسير، وقنعوا مَنْهَا بالقليل، فاستراحت قُلُوبهمْ من همها وأحزانها واستراحت أبدانهم من نصبها، وعنائها، وسلم لَهُمْ دينهم، وكَانُوا عِنْدَ الله هم المحمودين، فَلَمْ تشغلهم دنياهم عَنْ طاعة مولاهم.
جعلوا النفس الأخَيْر وَمَا وراءه نصب أعينهم، وتدبروا ماذا يكون مصيرهم، وفكروا كيف يخرجون من الدُّنْيَا، وإيمانهم سالم لَهُمْ وَمَا الَّذِي يبقى معهم مَنْهَا فِي قبورهم، وَمَا الَّذِي يتركونه لأعدائهم فِي الدُّنْيَا، ومن لا يغنيهم من الله شَيْئًا: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}، {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً}، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} ويبقى عَلَيْهمْ وبال مَا جمعوا وَمَا عمروا فِي غير طاعة الله. أدركوا كُلّ هَذَا فتأهبوا للسفر الطويل وأّعدوا الجواب للحساب، وقدموا الزَّاد للمعاد وخَيْر الزَّاد التَّقْوَى، فطُوبَى لَهُمْ خافوا فآمنوا وأحسنوا ففازوا وأفلحوا. وَقَالَ بعض الْعُلَمَاء يذم الدُّنْيَا ويحذر عَنْهَا.
وَلَمْ يَطْلُبْ عُلُوَّ الْقَدْرِ فِيهَا ** وَعِزَّ النَّفْسِ إِلا كُلُّ طَاغِ

وَإِنْ نَالَ النُّفُوسَ مِن الْمَعَالِي ** فَلَيْسَ لَنَيْلِهَا طَيْبُ الْمَسَاغِ

إِذَا بَلَغَ الْمُرَادَ عُلاً وَعِزًّا ** تَوَلَّى وَاضْمَحَلَّ مَعَ الْبَلاغِ

كَقَصْرٍ قَدْ تَهَدَّمَ حَافَتَاهُ ** إِذَا صَارَ الْبِنَاءُ إِلى الْفَرَاغِ

أَقُولُ وَقَدْ رَأَيْتُ مُلُوكَ عَصْرِي ** أَلا لا يَبْغِيَنَّ الْمُلْكَ بَاغِ

آخر:
هِيَ الدُّنْيَا تَقُولُ بِمِلءِ فِيهَا ** حَذَارِ حَذَارِ مِنْ بَطْشِي وَفَتْكِي

فَلا يَغْرُرْكُمُوا مِنِّي ابْتِسَامٌ ** فَقَوْلِي مُضْحِكٌ وَالْفِعْلُ مُبْكِي

آخر:
أفّ مِن الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا ** كَأَنَّهَا لِلْحُزْنِ مَخْلُوقَةْ

هُمُومُهَا مَا تَنْقَضِي سَاعَةً ** عَنْ مَلِكٍ فِيهَا وَلا سُوقَةْ

آخر:
زَهِدْتُ فِي الْخَلْقِ طُرًا بَعْدَ تَجْرِبةً ** وَمَا عَليَّ بِزُهْدِي فِيهِمُ دَرَكُ

إِنِّي لا عَجْبُ مِنْ قَوْمٍ يَقُودُهُمُوا ** حِرْصٌ إلى بُرَّةٍ مُلْكًا لِمَنْ مَلَكُوا

أَوْ أَنْ يَذِلُّوا لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ ** وَفِي خَزَائن رَبِّ الْعِزَّةِ إِشْتَرَكوا

أَمَا وَرَبك لَوْ دَانُوا بِمَعْرِفَةٍ ** لَقَدْ أَصَابُوا بِهَا الْمَرْغُوبَ لَوْ سَلُكُوا

مَنْ ذَا تُمَدُّ إِلَيْهِ الْكَفُّ فِي طَلَبِ ** بِمَا عَلَيْهَا وَأَنْتَ الْمَالِكُ الْمَلِكُ

آخر:
عَجِبْتُ لِمَخْلُوقٍ يُبَالِغُ فِي الثَّنَا ** عَلَى بَعْضِ خَلْقِ اللهِ يَرْجُ الدَّرَاهِمَا

وَيَنْسَى الَّذِي مِنْهُ الْغِنَى وَلَهُ الثَّنَا ** وَيَأْمُرُ مَنْ يُعْطِي وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَا

آخر:
إِنَّ لله عِبَادًا فُطَنَا ** طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الْفِتَنَا

نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا علمُوا ** أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيّ سَكَنَا

جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا ** صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا

آخر:
دَعِ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا ** وَفِي الْعَيْشِ فَلا تَطْمَعْ

وَلا تَجْمَعْ مِن الْمَالِ ** فَلا تَدْرِي لِمَنْ تَجْمَعْ

فَإِنَّ الرزقَ مَقْسُومٌ ** وَسُوءُ الظَّنِّ لا يَنْفَعْ

فَقِيرٌ كُلُّ ذِي حِرْصٍ ** غَنِيٌّ كُلُّ مَنْ يَقْنَعْ

آخر:
لا تَبْخَلَنَّ بِدُنْيَا وَهِيَ مُقْبِلَةٌ ** فَلا يَضُرُّ بِهَا التَّبْذِيرُ وَالسَّرَفُ

وَإِنْ تَولَّتْ فَأَحْرَى أَنْ تَجُودَ بِهَا ** فَالشُّكْرُ مِنْهَا إِذَا مَا أَدْبَرَتْ خَلَفُ

آخر:
إِذَا كُنْتَ ذَا مَالٍ وَلَمْ تَكُ ذََا نَدَى ** فَأَنْتَ إِذَا وَالْمُقْتِرِينَ سَوَاءُ

آخر:
وَأَخْسَرُ النَّاسِ سَعْيًا مَنْ قَضَى عُمُرًا ** فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَنْ أَنْشَاهُ مِنْ عَدَم

آخر:
لا تَغْتَرِبْ عَنْ وَطَنٍ ** تَزْدَادُ فِيهِ مِنْ تُقَى

رَبٍّ جَوَدٍ مَاجِدٍ ** مَا لَهُ شَرِيكٌ يَا فَتَى

أَكْثرْ هُدِيتَ ذِكْرَهُ ** تَنَلْ بِهِ الأَجْرَ الْجَسِيمْ

يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَا ** تَحْظَى بِجَنَّاتِ النَّعِيمْ

اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الأَبْرَار وأسكنا الْجَنَّة دار الْقَرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ:
والقسم الثاني من النَّاس جهال عمي البصائر لم ينظروا فِي أمرها ولم يكشفوا سوء حالها ومآلها، برزت لَهُمْ بزنتها ففتنتنهم، فإليها أخلدوا، وبها رضوا، ولها اطمأنوا، حَتَّى ألهتهم عَنْ الله تَعَالَى، وشغلتهم عَنْ ذكر الله، وطاعته، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
قَالَ تَعَالَى: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
نعم إنهم نسوا الله وأهملوا حقوقه وَمَا قدروه حق قدره، ولم يراعوا لإنهماكهم فِي الدُّنْيَا وتهالكهم عَلَيْهَا مواجب أوامره ونواهيه حق رعايتها، فأنساهم أنفسهم آنساهم مصالحهم وأغفلهم عَنْ منافعها وفوائدها فصار أمرهم فرطًا فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنًا لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره، وسيرون يوم القيامة من الأهوال مَا ينسيهم أرواحهم، وجعلهم حيارى ذاهلين يوم تذهل كُلّ مرضعة عَنْ مَا أرضعت وتضع كُلّ ذات حمل حملها وتَرَى النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
وفي مثل هَذَا يَقُولُ أحد الْعُلَمَاء: اجتهادك فيما ضمن لَكَ مَعَ تقصيرك فيما طلب منك دَلِيل على انطماس بصيرتك. أقاموا الدُّنْيَا فهدمتهم، واغتروا بها من دون الله فأذلتهم، أكثروا فيها من الآمال وأحبوا طول الآجال ونسوا الموت وَمَا بعده من الشدائد فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ الْمَعَاصِي ** وَلَمْ تَسْتَحِيي فَاصْنَعَ مَا تَشَاءُ

إِذَا مَا كُنْتَ ذَا قَلْبٍ قَنُوعٍ ** فَأَنْتَ وَمَالِكَ الدُّنْيَا سَوَاءُ

وروى الترمذي مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من كَانَتْ الآخِرَة همه جعل الله غناه فِي قَلْبهُ وجمَعَ عَلَيْهِ شمله وأتت الدُّنْيَا وهي راغمة، ومن كَانَتْ الدُّنْيَا همه جعل فقره بين عينيه وفرق عَلَيْهِ شمله ولم يأته من الدُّنْيَا إِلا مَا قدر لَهُ، فلا يمسي إِلا فقيرًا ولا يصبح إِلا فقيرًا».
وما أقبل عبد على الله إِلا جعل الله قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ تنقاد إليه بالود والرحمة، وكَانَ الله بكل خَيْر إليه أسرع. اهـ.
وَقَالَ فِي عدة الصابرين، وَقَدْ أخبر صلى الله عليه وسلم أنها لو ساوت عِنْدَ الله جناح بعوضة مَا سقى كافرًا مَنْهَا شربة ماء وأنها أَهْوَن على الله من السخلة الميتة على أهلها.
عَجَبًا لأَمْنِكَ وَالْحَيَاةُ قَصِيرَةٌ ** وَبِفَقْدِ إِلْفٍ لا تَزَالُ تُرَوَّعُ

أَحْلامُ لليْلٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ ** إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لا يُخْدَعُ

فَتَزَوَّدَنَّ لِيَوْمِ فَقْرِكَ دَائِبًا ** أَلِغَيْر نَفْسِكَ لا أبالكَ تَجْمَعُ

وأن مثلها فِي الآخِرَة كمثل مَا يعلق بإصبع من أدخل أصبعه فِي البحر وأنها ملعونة ملعون مَا فيها إِلا ذكر الله وَمَا ولاه، وعَالِم ومتعلم وأنها سجن المُؤْمِن وجنة الكافرين.
وأمر الْعَبْد أن يكون فيها كأنه غريب أَوْ عابر سبيل ويعد نَفْسهُ من أَهْل القبور وَإِذَا أصبح فلا ينتظر المساء وَإِذَا أمسى فلا ينتظر الصباح.
ونهى عَنْ اتخاذ مَا يرغب فيها، ولعن عبد الدينار وعبد الدرهم ودعا عَلَيْهِ بالتعس والانتكاس وعدم إقالة العثرة بالانتقاش.
خَلِيلِيَّ إِنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِنَافِعٍ ** إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ اللهِ يُنْفَقُ

وَمَا خَابَ بَيْنَ الله وَالنَّاسِ عَامِلٌ ** لَهُ فِي التُّقَى أَوْفَى الْمَحَامِدِ سُوقُ

وَلا ضَاقَ فَضْلُ اللهِ عَنْ مُتَعَفّفٍ ** وَلَكِنَّ أَخْلاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ

وأخبر أنها خضرة حلوة أي تأخذ العيون بحظرتها والقُلُوب بحلاوتها، وأمر باتقائها والحذر مَنْهَا كما يتقى النساء ويحذر منهن وأخبر أن الحرص عَلَيْهَا، وعلى الرياسة والشرف يفسد الدين.
وأخبر أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا كراكب استظِلّ تحت شجرة فِي يوم صائف، ثُمَّ راح وتركها. وَهَذَا فِي الحَقِيقَة حال سكَانَ الدُّنْيَا كلهم، ولكن هُوَ صلى الله عليه وسلم شهد هَذِهِ الحال، وعمي عَنْهَا بنو الدُّنْيَا.
ومر بِهُمْ وهم يعالجون خصًا لهم قَدْ وهي، فَقَالَ: «مَا أرى الأَمْرَ إِلا أعجل من ذَلِكَ»، وأمر بستر على بابه فُنُزِعَ. وَقَالَ: «إِنَّهُ يذكرني الدُّنْيَا». وأعْلَمَ النَّاس أَنَّهُ لَيْسَ لأحد مِنْهُمْ حق فِي سِوَى بيت يسكنه، وثوب يواري عورته وقوت يقيم صلبه.
وأخبر أن الميت يتبعه أهله، وماله، وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله، وكَانَ يَقُولُ: «الزهد فِي الدُّنْيَا يريح الْقَلْب والبدن، والرغبة فِي الدُّنْيَا تطيل الهموم والحزن». وكَانَ يَقُولُ: «من جعل الهموم كُلّهَا همًا واحدًا، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم فِي أوال الدُّنْيَا لم يبال الله فِي أي أوديتها هلك».
وأخبر أن بذل الْعَبْد مَا فضل عَنْ حاجته خَيْر لَهُ، وإمساكه شر لَهُ وأنه لا يلام على الكفاف، وأخبر أن عباد الله ليسوا بالمتنعمين فيها فَإِنَّ أمامهم دار النَّعِيم فهم لا يرضون بنعيمهم فِي الدُّنْيَا عوضًا من ذَلِكَ النَّعِيم.
نصيحة:
إِذَا استغنى النَّاس بالدُّنْيَا، فاستغن أَنْتَ بِاللهِ، وَإِذَا فرحوا بالدُّنْيَا، فأفرح أَنْتَ بِاللهِ، وَإِذَا أُنسوا بأحبابهم فأجعل أنسك بِاللهِ، وَإِذَا تعرفوا إلى كبرائهم لينالوا بِهُمْ العزة والكرامة فتعرف أَنْتَ إِلَى اللهِ، وتودد إليه تنل بذَلِكَ غاية العز والرفعة والكرامة.
وفي حديث مناجاة مُوَسى: ولا تعجبنكما زينته ولا مَا متع به ولا تمدان إلى ذَلِكَ أعينكما، فَإِنَّهَا زهرة الدُّنْيَا، وزينة المترفين وإني لو شئت أن أزينكما من الدُّنْيَا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عَنْ مثل مَا أوتيتما فعلت.
ولكن أرغب بكما عَنْ نعيمها ذَلِكَ، وأزويه عنكما، وكَذَلِكَ أفعل بأوليائي، وقديمًا مَا أخرت لَهُمْ فِي ذَلِكَ فإني لأذودهم عَنْ نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عَنْ مراعي الهلكة وإني لأجنبهم سلوتها، وعيشها كما يذود الراعي الشفيق إبله عَنْ مبارك العزة.
وما ذَلِكَ لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا مصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدُّنْيَا ولم يطغه الهوى.
واعْلَمْ أَنَّهُ لم يتزين لي العباد بزينة هِيَ أبلغ من الزهد فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهَا زينة المتقين عَلَيْهمْ مَنْهَا لباس يعرفون به من السكينة، والخشوع سيماهم فِي وجوههم من أثر السجود.
أولئك أوليائي حقًا فَإِذَا لقيتهم فاخفض لَهُمْ جناحك، وذل لَهُمْ قلبك ولسانك. وَقَالَ الحواريون: يَا عيسى من أَوْلِيَاء الله الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون؟
قَالَ: الَّذِينَ نظروا إلى باطن الدُّنْيَا، حين نظر النافس إلى عاجلها فأماتوا مَنْهَا مَا يخشون أن يميتهم، وتركوا مَا علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم مَنْهَا استقلالاً، وذكرهم إياهًا فواتًا، وَمَا عارضهم من رفعتها بغير الْحَقّ وضعوه.
خلقت الدُّنْيَا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها، وماتت فِي صدورهم، فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها، فيشترون بها مَا يبقى لَهُمْ.
رفضوها فكَانُوا بها هم الفرحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قَدْ حلت بِهُمْ المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة.
يحبون لله، ويحبون ذكره، ويستضيئون بنوره، ويضيئون به لَهُمْ خبر عجيب وعندهم الْخَبَر العجيب، بِهُمْ قام الكتاب، وبه قاموا وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب، وبه عملوا ليسوا يرون نائلاً مَعَ مَا نالوا، ولا أمانًا دون مَا يرجون، ولا خوفًا دون مَا يحذرون.
وَقَالَ: يَا بَنِي إسرائيل، اجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف فما لكم فِي العَالِم من منزل إن أنتم إِلا عابري سبيل.
وَقَالَ: يَا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبَنِي فوق موج البحر دارًا. قَالُوا: يَا روح الله من يقدر على ذَلِكَ؟ قَالَ: إِيَّاكُمْ والدُّنْيَا فلا تتخذوها قَرَارًا.
وَقَالَ: حلاوة الدُّنْيَا مرارة الآخِرَة، ومرارة الدُّنْيَا، حلاوة الآخِرَة.
وَقَالَ: يَا بَنِي إسرائيل تهاونوا بالدُّنْيَا تهن عليكم، وأهينوا الدُّنْيَا تكرم عليكم الآخِرَة، ولا تكرموا الدُّنْيَا تهن عليكم الآخِرَة، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بأَهْل للكرامة، وكل يوم تدعوا إلى الفتنة والخسارة.
قَالُوا: وَقَدْ تواتر عن السَّلَف أن حب الدُّنْيَا رأس الخطايا، وأصلها وقيل: إن عيسى بن مريم عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: رأس الخطيئة حب الدُّنْيَا، والنساء حبالة الشيطان، والخمر جماع كُلّ شر.
النَّارُ آخِرُ دِينَارِ نَطَقْتَ بِهِ ** وَالْهَمُّ آخِرُ هَذَا الدَّرهِمُ ْالْجَارِي

وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ وَرِعًا ** مُعَذبُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْهَمِّ وَالنَّار

قَالَ الإمام الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللهُ:
خَبَتْ نَارُ نَفْسِي بِاشْتِعَالِ مَفَارِقِي ** وَأَظْلَِمَ لَيْلِي إِذَا أَضَاءَ شِهَابُهَا

أَيَا بُومَةً قَدْ عَشَّشَتْ فَوْقَ هَامَتِي ** عَلَى الرَّغْمِ مِنِّي حِينَ طَارَ غُرَابُهَا

رَأَيْتِ خَرَابَ الْعُمْرِ مِنِّي فَزُرْتَنِي ** وَمَأْوَاكِ مِنْ كُلِّ الدِّيَارِ خَرَابُهَا

أَأَنْعَم عَيْشًا بَعْدَ مَا حَلَّ عَارِضِي ** طَلائِعُ شَيْبٍ لَيْسَ يُغْنِي خِضَابُهَا

إِذَا اصْفَرَ لَوْنُ الْمَرْءِ وَابْيَضَّ شَعْرُهُ ** تَنَغَّصَ مِنْ أَيَّامِهِ مُسْتَطَابُهَا

وَعِزَةُ عُمَرِ الْمَرْءِ قَبْلَ مَشِيبِهِ ** وَقَدْ فَنِيتَ نَفْسٌ تَوَلَّى شَبَابُهَا

فَدَعْ عَنْكَ سَوْآتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ** حَرَامٌ عَلَى نَفْسِ التَّقِي ارْتِكَابُهَا

وَأَدِّ زَكَاةَ الْجَاهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّهَا ** كَمِثْلِ زَكَاةِ الْمَالِ تَمَّ نِصَابُهَا

وَأَحْسِنْ إلى الأَحْرَارِ تَمْلِكْ رِقَابِهُمْ ** فَخَيْرُ تِجَارَاتِ الرِّجَالِ اكْتِسَابُهَا

وَلا تَمْشِيَن فِي مَنكِبِ الأَرْضِ فَاخِرًا ** فَعَمَّا قَلِيلٍ يَحْتَوِيكَ تُرَابُهَا

وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعمتُهَا ** وَسِيقَ إِلَيْنَا عَذْبُهَا وَعَذابُهَا

فَلَمْ أَرَهَا إِلا غُرُورًا وَبَاطِلاً ** كَمَا لاحَ فِي ظَهْرِ الْفَلاةِ سَرَابُهَا

وَمَا هِيَ إِلا جِيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ ** عَلَيْهَا كِلابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا

فَإِنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سِلْمًا لأَهْلِهَا ** وَإِنْ تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلابُهَا

إِذَا انْسَدَّ بَابٌ عَنْكَ مِنْ دُونِ حَاجَةٍ ** فَدَعْهَا لأُخْرَى يَنْفَتِحْ لَكَ بَابُهَا

فَإِنَّ قُرَابَ الْبَطْنِ يَكْفِيكَ مِلْؤُهُ ** وَيَكْفِيكَ سَوآت ِالأُمُورِ اجْتِنَابُهَا

فَطُوبى لِنَفْسٍ أَوْطَنَتْ قَعْرَ بَيْتِهَا ** مُغْلَقَةَ الأَبْوَابِ مُرْخَىً حِجَابُهَا

فَيَا رَبِّ هَبْ لِي تَوْبَةً قَبْلَ مَهْلَكٍ ** أُبَادِرُهَا مِنْ قَبْلِ إِغْلاقِ بَابِهَا

فَمَا تَخْرَبُ الدُّنْيَا بِمَوْتِ شِرَارِهَا ** وَلَكِنْ بِمَوْتِ الأَكْرَمِينَ خَرَابُهَا

اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَة، اللَّهُمَّ وأيدنا بنصرك وأرزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك، اللَّهُمَّ اسلك بنا مسلك الصادقين الأَبْرَار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وآتنا فِي الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة، وقنا عذاب النار. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَصْل:
وعن سفيان قَالَ: كَانَ عيسى بن مريم يَقُولُ: حب الدُّنْيَا أصل كُلّ خطيئة والْمَال فيه داء كثير، قَالُوا: وَمَا دواؤه قَالَ: لا يسلم من الفخر والخيلاء. قَالُوا: فَإِنَّ سلم؟ قَالَ: يشغله إصلاحه عَنْ ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ.
قَالُوا: وَذَلِكَ معلوم بالتجربة والمشاهدة، فإن حبها يدعوا إلى خطيئة ظاهرة وباطنة، ولاسيما خطيئة يتوقف تحصيلها عَلَيْهَا، فيسكر عاشقها حبها عن علمه بتلك الخطيئة، وقبحها وعن كراهتها واجتنابها.
وحبها يوقع فِي الشبهات، ثُمَّ فِي المكروهات، ثُمَّ فِي المحرمَاتَ، وطالما أوقع فِي الكفر، بل جميع الأمم المكذوبة لأنبيائهم إِنَّمَا حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدُّنْيَا، فَإِنَّ الرسل لما نهوهم عَنْ الشرك والمعاصي التي كَانُوا يكتسبون بها الدُّنْيَا، حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم.
فكل خطيئة فِي العَالِم أصلها حب الدُّنْيَا، ولا تنس خطيئة الأبوين قديمًا، فإنما كَانَ سببها حب الخلود فِي الدُّنْيَا، ولا تنس ذنب إبلَيْسَ وسببه حب الرياسة، التي محبتها شر من محبة الدُّنْيَا.
وبسببها كفر فرعون وهامان وجنودهما، وأَبُو جهل وقومه، واليهود، فحب الدُّنْيَا والرياسة هُوَ الَّذِي عَمَرَ النار بأهلها.
والزهد فِي الدُّنْيَا والزهد فِي الرياسة هُوَ الَّذِي عَمَرَ الْجَنَّة بأهلها.
والسكر بحب الدُّنْيَا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصَاحِب هَذَا السكر لا يفيق منه، إِلا فِي ظلمة اللحد، ولو انكشف عَنْهُ غطاؤه فِي الدُّنْيَا لعلم مَا كَانَ فيه من السكر، وأنه أشد من سكر الخمر والدُّنْيَا تسحر العقول أعظم سحر.
قَالَ الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر قَالَ سمعت مالك بن دينار يَقُولُ: اتقوا السحارة، اتقوا السحارة، فَإِنَّهَا تسحر قُلُوب الْعُلَمَاء.
أَهْلُ الْمَنَاصِبِ فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَتِهَا ** أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَرْذُولُونَ عِنْدَهُمُ

قَدْ أَنْزَلُونَ لأَنَّا غَيْرَ جِنْسِهَمُ ** مَنَازِلَ الْوَحْشِ فِي الإِهْمَالِ بَيْنَهُمُ

فَمَا لَهُمْ فِي تَوَقِي ضُرِّنَا نَظَرٌ ** وَمَا لَهُمْ فِي تَرَقِّي قَدْرِنَا هِمَمُ

فَلَيْتَنَا لَوْ قَدِرْنَا أَنْ نُعَرِّفَهُمْ ** مِقْدَارَهُمْ عِنْدَنَا أَوْ لَوْ دَرَوْهُ هُمُوا

لَهُمْ مُريْحَانِ مِنْ جَهْلٍ وَفَرْطِ غِنَى ** وَعِنْدَنَا النَّافِعَانِ الْعِلْمُ وَالْهِمَمُ

آخر:
رَأَيْتُ النَّاسُ قَدْ مَالُوا ** إلى مَنْ عِنْدَهُ مَالُ

وَمَنْ لا عِنْدَهُ مَالُ ** فَعَنْهُ النَّاسُ قَدْ مَالُوا

والله أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.